خفايا العوايد وتأثيرها على الإنتاج كمًّا ونوعًا (٢)

مقالات واعمدة صحفية

خفايا العوايد وتأثيرها على الإنتاج كمًّا ونوعًا (٢)

مقالات_ اضواء _ الموافق ٢٠٢٥/٥/٣١م

خفايا العوايد وتأثيرها على الإنتاج كمًّا ونوعًا (٢)

ظنّي أن مجهود دوائر الإصلاح، الرسمي منها والشعبي، يعمل على ما لا كبير فائدة منه؛ فهي تجهد لتجني مجرّد الرضى اللحظي عمّا يقدّمون من جهد، ثم ينهار ما بُني بعوايدهم وعوايد الناس. فنحن كأمّةٍ لم نبارح مكاننا، بل نتراجع. وسبب ذلك ليس ضعف عمل دوائر الإصلاح، بل خطأ مكان عملها؛ فهم يعملون على غير موضع العطب، كمن يُحرّك الترس القائد في حين أن السيور الناقلة للحركة مقطوعة، أو كمن يُعالج العرض ويترك المسبّب الممرِض؛ فتخفّ الحمى، ولكنّها لا تختفي، يخفّ الألم، لكنه يعاود كلما توقّف المسكّن، بل أحيانًا لا يُجدي حتى المسكّن؛ لأن الممرِض لم يُعالج.

تفشل الإدارة في كافة الأصعدة، وتتراجع الخدمات بعد التأسيس لها، في القطاع العام أو الخاص.

لن تجد مشروعات تهتمّ بتغيير سلوكيات الناس، إلا القليل النادر، المحجوب بضجيج العامة وسواد الكثرة. فعُلوم كالأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع، لا تكاد تُعرف بين الناس، وهي بمقدورها تفسير: انتشار الأوبئة، وضعف الإنتاج، وارتفاع الجريمة أو البطالة، وضعف التقانة، وقلّة المنتوج العلمي من منشورات وأبحاث ومطبوعات، بل وحتّى حركة السوق.

تشاركنا مرّة، كأبناء قرية، حوارًا حول مشروعات يمكن أن يقوم بها الشباب؛ فكان من ضمن ما طُرح: يومٌ للنظافة.

وهو مشروع مكرور، كان يؤلمني ما بعده بعدد المرّات التي يُقام؛ إذ إنّه عندي مشروع نجاح الـ٢٤ ساعة، ثم تبدأ دورة التراكم من جديد. فكان أن علّقتُ: "سأكون من ضمن المشروع، لكن غير مقتنع بجدواه."

ثم تحوّل الحوار إلى التسخّط من العرض، أعني (تكدّس الأوساخ وبشاعة المنظر)، وهو بالطبع أمرٌ يكدرني كما يكدرهم، ويدفعني للعلاج كما يدفعهم. لكنه عرض، والأولى البحث عن المرض، الذي هو بلا شك مرتبط بعوايد الناس؛ مثل: فرز النفايات، وجمعها في أماكن محدّدة، وصبرهم على المشي إلى أماكن رميها، واختيار أماكن مناسبة، وتأسيس جهة تتكسب من جمعها، إعادة التدوير، استخدام خامات محليّة صديقة للبيئة، إعادة القفاف بصورة عصريّة... إلخ، من الحلول التي تغيّر السلوك فتخلق استدامة.

وعلى ذكر الطباع بقضية النظافة العامة — وهي طبعًا من أبرز سمات المجتمعات المتحضّرة — يحضرني موقفان:

الأول: ونحن بالجامعة، دار حوارٌ بيننا كمجموعة طلاب حول التغيير وضرورته، فأدليتُ بذات الرأي الذي أدليتُ به أعلاه: أن التغيير يبتدئ بتغيير العوايد.

لا أختلف معك في كيفية تغييرها، لكن دعونا نتّفق على ضرورة تغييرها.

ثم ضربتُ مثالًا بالمكان الذي كنّا نجلس فيه — الكافتيريا العامة.

سلة النفايات على بُعد خطوات من كل طاولة، لكن الجميع يرمي أوراق السندوتشات تحت رجليه، حتى المتحدثين أنفسهم. وهؤلاء الطلاب يُفترض أنهم صفوة مجتمعاتهم تحضّرًا ورُقيًّا، فكيف بالعوام؟

ضحك الجميع على واقعٍ ماثل أمامهم، لا يمكن إنكاره، لكن ما زالت عندهم قناعة خفيّة بأن لو كان هناك سببٌ خارجي، لكان الوضع أفضل — على طريقة الطفل الذي أسلفنا ذكره في مقال البارحة، تحتاج أن تقول لهم: (دي الأرض وقعتكم؟ ليه يا أرض توقعي ناس فلان؟!).

وهذا ما يمكن أن نثبته في الموقف الثاني، الذي يُثبت معالجة العرض الذي يزعجهم، ويُبقي المرض الذي يزعجني:

كنتُ حاضرًا لمباراة بين منتخب خليجي ومنتخبٍ آسيوي غير عربي.

جمهورٌ عربي كبير من كل الخليج يساند المنتخب، وجمهور آخر من بقية الآسيويين.

فكان انتباهي مع المباراة بالمناصفة: نصف مع المباراة، ونصف مع سلوكيات الناس وانفعالاتهم.

فلاحظتُ أن الجمهور الخليجي العربي يُلقي تحت أقدامه كل شيء؛ قوارير فارغة، أكياس تسالي، أوراق سندوتشات... إلخ.

ثم لاحظتُ مجموعةً من الكوريين جمعوا القمامة في كيسٍ واحد، وحملوها معهم عند مغادرتهم.

حينها تذكّرت تشوّقات زملائي في الجامعة؛ فهم يطمحون إلى بلدٍ غنيّ يعالج مثل هذا العرض لسلوكنا، بتوفير عمّال لجمع النفايات بعد المباراة، أو نحن نرميها في الشارع، ومن فوق جدران السور في الحدائق العامة، كعمّال البلديات الذين يجوبون الطُرقات في البلدان الغنيّة.

وأنا أطمح إلى عافية ذاتيّة لا تحتاج لمعالجة العرض.

حينها وقع في نفسي أن التحضّر يُصنع بالسلوك. فهؤلاء، إن أفلست بلدانهم — لا قدّر الله — ستنكشف سوأة السلوك، أما الآخرون، فهم في غنى بعوايدهم مع وجود من يعمل، فيكون خيرًا على خير. أما نحن، فجمعنا ضيرًا على ضير.

يتبع...

جميع الحقوق محفوظة

www.adwaamedia.com